رحلة الحج

Ibrahim Alalou
4 min readSep 2, 2019

--

تأليف: إبراهيم عبدالله العلو

رحلة الحج رحلة تختلف عما سواها. فهي عبادة في المقام الأول وتمثل الركن الخامس من أركان الإسلام وقد أطنب الفقهاء والعلماء في توضيح مقاصدها وأركانها إستناداً إلى الآيات الكريمة في القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف لكنني أعبر في هذه العجالة عما يعتمل في صدري وما تفيض به جوانحي إثر الكرم الإلهي الذي شرفني بأداء هذا الركن هذا العام.

عندما تتهيأ لرحلة العمر يرق قلبك وتسيل مدامعك ويخشع فؤادك وتراك تحسب الأيام والساعات ليوم السفر الموعود.

تحاول قدر استطاعتك إعداد العدة وتجهيز مستلزمات السفر ولسان حالك يقول: هل يا ترى أصل حقاً إلى هناك إلى مهوى الأفئدة ومتنزل الوحي ومدارج الأنبياء والصالحين وكيف وأنا العبد الفقير الذي أثقلته الذنوب والمعاصي وطول البعد عن الله ومشاغل الدنيا الفانية ثم تحين لحظة السفر.

كيف الوداع والقلب قد رق والنفس قد تاقت للوصول إلى تلك الرحاب الطاهرة وهل تمضي تلك السويعات بسلام ونرتدي ملابس الإحرام ونتجرد عن كل ما يشغلنا عن مقصودنا ونجدد العزم على التوبة والعهد مع الله.

نستقل الطائرة وسرعان ما يصدح قائدها: وصلنا الآن إلى الميقات وتلهج الألسن بالتلبية: لبيك اللهم لبيك. لبيك لا شريك لك لبيك. إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك. لبيك اللهم لبيك.

هنا شعور غامر وألق متوهج يفيض حبوراً في جنبات الطائرة التي تحولت إلى سفينة إيمانية تمخر عباب السماء وتسابق الزمن كي تصل إلى وجهتها وقد ضاقت بحماس الحجيج واشتياقهم وأرواحهم التي كادت أن تخترق الأجواء شوقاً لبيت الله الحرام.

تحط الطائرة وما أن تطأ بقدميك أرض المطار تتسارع الخطى و تذهلك حفاوة الإستقبال و تستقل الحافلة نحو مكة المكرمة. على أبواب الفندق يستقبلك الأحبة أجمل الإستقبال ولاتملك أن تسكت دمعات حرى أبت إلا أن تفصح عما يجيش في صدرك في جو إيماني مهيب.

تحين لحظة الذهاب إلى الحرم المكي الشريف ورؤية الكعبة المشرفة للوهلة الأولى. تشق طريقك بين ألوف مؤلفة من الحجيج قدموا من أصقاع الأرض كافة من شتى الأعمار والأجناس والألوان كل يسارع الخطى للظفر بإكتحال العين لرؤية البيت العتيق. منهم من ضعفت قواه وخارت عزيمته يمشي الهوينى أو متكئاً على من يعينه من أهل بيته ومنهم من يسارع الخطى فرحاً بما وهبه الله من قوة ونشاط لا يلهيه عن تقديم يد العون لمن يحتاجه.

تدخل صحن المطاف وتسير في تناغم وانسيابية وتحار ماذا تسمع من الأصوات. الكل يدعو بكل اللغات. لهجات متباينة وأصوات شجية ولغات متفاوتة وحناجر رخيمة تقول كلها يا الله. لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك. نداء. نداء خالد وتلبية لم تنقطع على مر العصور والدهور. في لحظة إيمانية فريدة وجو قدسي تزيده مهابة المكان وفرادة الزمان روحانية شفافة رقيقة تفطر أقسى القلوب وتدمع ما تحجرمن العيون وتحرك ما ركد من المشاعر وما سكن من خلجات.

ثم تشرب من ماء زمزم مؤمناً موقتاً بأن “زمزم لما شرب له” وتدعو الله بما يلهمك من الدعاء وأنت موقناً بالإجابة ثم تتجه إلى المسعى للسعي بين الصفا والمروة.

تشيح بناظريك إلى الماضي السحيق وتترائ لناظريك أمنا هاجر وهي تذرع المسافة جيئة وذهوباً بين الصفا والمروة بحثاً عن ماء تروي به ظمأ صغيرها إسماعيل حتى تأتي البشرى بتفجر ينبوع زمزم فتسرع قائلة: زم زم هلعاً وخوفاً من تسرب الماء في الرمل الحارق. نمشي في مسعى رخامي وأجهزة التكييف لا تفتر وكيف حالها آئنذاك لا سقف ولا وقاء وصغير أنهكه العطش والحر.

من الحجيج من يسير زرافات ووحداناً و تناهي إلى سمعي من أخالهم من مسلمي ماليزيا أو أندونيسيا يسيرون في انضباط شديد وتفتر ألسنتهم عن أناشيد بلهجاتهم المحلية ولكن بترانيم شجية وأدعية رخيمة لم أفهم معناها ولكنها دخلت القلب بلا استئذان وأحدثت فعلها بلا قيود.

تنتهي من السعي وتقصر من شعرك والفرح يغمرك بإنهاء العمرة والتهيؤ لمناسك الحج.

تبدأ المناسك بالإحرام والتوجه إلى منى والوقوف بعرفات. وما أدراك ما عرفات. جبل الرحمة وملتقى أكبر تجمع للمسلمين على سطح البسيطة. أكثر من 2.5 مليون مسلم يجتمعون في بقعة جغرافية صغيرة ودرجات الحرارة قد تجاوزت 44 درجة مئوية. ترى الحبور والسرور على محيا الحجيج رغم الحر والزحام. كل منهم مسرور بأداء ركن الحج الأعظم ويقتنص هذه السويعات البسيطة في الدعاء والتضرع إلى الله. وما أن تنقضي الدقائق حتى تنفرج السماء بغيث عميم ورحمة مهداة تغسل ذنوب العباد وترتقي بأرواحهم قبل أجسادهم إلى الأعالي مستبشرة بمغفرة الله وعفوه ورضوانه.

تمضي إلى الجمرات وتبدأ في اليوم الأول برمي جمرة العقبة الكبرى ثم تليها في الأيام التالية الجمرات الثلاث. ترمي شيطان النفس والهوى و تعاهد الله على التوبة والاستقامة ودوام الطاعة. ثم تعود لأداء طواف الإفاضة وسعي الحج والحلق أو التقصير. هكذا تنقضي المناسك في أمن وسلام وطمأنينة تفيض على القلب والجوارح ويستكين لها الفؤاد. تقضي ما بقي لك من وقت قبل السفر في ارتياد المسجد الحرام في طواف وتذلل وتعبد في رحاب البيت العتيق.

تدهشك مشاهد الألفة والتراحم بين الحجيج والفرح بفضل الله أن من عليهم بأداءهذه الشعيرة العظيمة. حيثما التفت ترى قائماً أو راكعاً أوساجداً يدعو بحرقة وبلغات لا تفهمها ولكن القلب يعيها والمدامع تزكيها. رباه ها هم عبادك جاؤك شعثاً غبراً وبذلوا الغالي والرخيص وتركوا الأهل والأحباب موقنين بعفوك ورحمتك وكرمك فلا تردهم خائبين. تشعر برضا وسكينة وتوقن أن الله تبارك وتعالى لن يردهم وكيف وقد دعاهم إلى بيته وهيأ لهم الأسباب وطوى لهم المسافات.

ثم تحين لحظة الوداع. طواف الوداع هو آخر العهد بالبيت العتيق. تطوف بشعور مختلف هل يا ترى هو آخر عهد ببيت الله الحرام وتمشي وقدميك تصطفقان. تريد الخروج متأدباً مع بيت الله ولا تعطي ظهرك للكعبة المشرفة. أرى عن يميني شيبة وعجائز يدل محياهم على مقدم من الصين وآسيا الوسطى.

أثارني نحيبهم ونشيجهم وهم يودعون الكعبة المشرفة نحيب من فقد عزيزاً على القلب وارتجاف من مشهد عظيم. كيف أخفي ذاتي عن ذاتي وأتخفى في بحر من البشر؟ لم يعد هناك ما تخفيه. دع مقلتيك تقول ما لم يقله لسانك: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم واغفر للمسلمين أجمعين ولا تجعل في حجنا رياء أو سمعة. اللهم آمين.

--

--

Ibrahim Alalou
Ibrahim Alalou

Written by Ibrahim Alalou

Life-long learner. Translator. Writer. Seeking answers to mind-boggling questions .إبراهيم العلو. من سوريا. مهندس زراعي . كاتب ومترجم. ibrahimalou.blogspot.com.

No responses yet