وباء أمريكا الصامت.
مشكلة أمريكا مع الأسلحة الفردية.
الجزءالأول
يطغى إطلاق النار الجماعي على الحوار الوطني حول ضبط الأسلحة ولكن ثلثي قتلاها تنجم عن الانتحار. كيف تحل مشكلة لا يتحدث عنها أحد في غالب الأحيان؟
تأليف: جويل جنتر.
ترجمة: إبراهيم عبدالله العلو.
تاريخ النشر 7 فبراير(شباط).عام 2020.
كانت ليلة موت برايدن ليلة باردة سماءها صافية في مدينة هيلينا على سفوح جبال الروكي في ولاية مونتانا. انهمر قبلها القليل من الثلج على المدينة وساقته الرياح على جوانب المنازل.
جلس برايدن في غرفة نومه يشاهد إعادة لبرنامجه التلفزيوني المفضل مع والدته ميليسا. وفي الطرف الآخر من المدينة كان صديقه الحميم كيسي برفقة والدته في زيارة لمنزل أحد أصدقاء العائلة.
عند تلك النقطة في بداية شباط من العام 2016 كان برايدن شايفر وكيسي دايترتش أصدقاء لمدة تقارب نصف عمرهما. التقيا في سن التاسعة عندما التحق برايدن متأخراً بالمدرسة الابتدائية المحلية في هيلينا وكان بحاجة لمن يرشده هناك. كان برايدن صبياً براق العينين ذي ابتسامة عريضة مولعاً بالنكات العملية. وكان رفيقه كيسي صبياً هادئاً خجولاً شدته ثقة برايدن البسيطة.
بدأ الفتيان باللقاء كل يوم في المدرسة وبعد انتهاء الدوام وأصبحا صديقين مقربين مع توالي الأيام. مضت سبع سنين على تلك الشاكلة حتى بلوغهما سن السادسة عشرة من العمر. عاش برايدن وكيسي على مبعدة عدة أميال من بعضهما البعض في هيلينا وقضيا أيام الصيف الطويلة سوية ما بين لعب كرة السلة والسباحة في البحيرة أو قيادة شاحنة برايدن الشيفروليه السوداء من موديل عام 91 .
وعندما لا يلتقيان في بعض الأيام النادرة يتواصلان عبر الرسائل النصية وتبادلا على مر السنين مئات الرسائل ولم تختلف تلك الليلة في شهر فبراير عن سابقاتها. أرسل كيسي رسالة يقول فيها أنه نسي بنطالاً في منزل برايدن الذي أجابه بأنه لم ينتهي بعد من إنجاز وظيفته المدرسية. شجع كيسي صديقه على استكمال الوظيفة.
“يجب أن تنهي ذلك يا صاح. لا تفشل في المدرسة”.
“لن أفشل يا صديقي.” كتب برايدن.
“حسناً. أردت فقط التأكد من ذلك”. أجاب كيسي.
كان من المهم بالنسبة لكيسي أن يتابع برايدن تحصيله العلمي. كان مستقبل كيسي غامضاً مع مكوث والده في السجن وتنقله مع والدته من منزل لآخر وعملها المضني لكسب مبلغ أجرة المنزل.
انقطع عن المدرسة في الصيف السابق وهو في الخامسة عشرة من العمر وبدأ بالعمل في مطعم للتاكو(طعام مكسيكي).كان برايدن بالنسبة له أكثر من شقيق وكان كل منهما يحنو على الآخر.
ومض هاتف كيسي برسالة أخرى “يا صاح. أنت صديق رائع يا صاح”.
شعر كيسي بتغيير في نبرة برايدن وأجابه “شكراً يا عزيزي. ما الخطب؟”
“لم أعد أشعر بالحياة. لا أظن أنني سأتابع.” رد برايدن.
لم يشك كيسي قط بأن لدى صديقه ميولاً انتحارية. وأخبرني “كان فتى سعيداً ومحظوظاً. مارس الرياضة وساعد أصدقائه ورفع من معنوياتهم عندما شعروا بالإحباط. كان فتى رائعاً”.
جلس كيسي في غرفته في تلك الليلة وبدأ القلق بالاستحواذ عليه وكتب لبرايدن “تريدني أن أحضر أليك يا صديقي؟”
في منزل برايدن شعرت ميليسا بالتعب وانصرفت عن التلفاز. أخبرت برايدن أنها تحبه وطلبت منه ألا يتأخر في السهر ثم ذهبت إلى سريرها.
بقي برايدن وحيداً في غرفته وأرسل لكيسي سلسلة من الرسائل النصية التي تزداد يأساً واحباطاً. وكتب
“صديقي. أجلس وحيداً برفقة كلبي وأفكر. لا يوجد لدي شيء ولكنني لا أعلم”.
أجاب كيسي “أتريدني أن أحضر أليك يا صاح.”
ثم طلب برايدن من صديقه ألا يحضر إلى منزله “مهما حدث”.
“لا تحضر إذا توقفت عن الرد على رسائلك. فقط أخبر الشرطة.”
هرع كيسي من غرفته مسارعاً الخطى على الدرج والتقط مفاتيح سيارة والدته وصرخ قائلاً وهو يركض نحو الباب “برايدن بحاجة إلي.”
في منزل برايدن سمعت ميليسا صوت ابنها وهو يتحرك. نادته من غرفتها وأجاب بأنه كان يبحث عن فيلم وأنه يحبها وسوف يراها في الصباح.
قاد كيسي السيارة بسرعة مجتازاً الأميال القليلة عبر المدينة وسطع بريق هاتفه في جيبه برسالة أخيرة لم يرها حتى وصوله إلى منزل صديقه بعد فوات الأوان.
“يا صديقي. أتصل بي”.
لا يزال كيسي منذهلاً بسرعة فقدانه لصديقه ويقول: “كانت مجرد محادثة عادية في ليلة اعتيادية. وفجأة تحول النور إلى ظلام.”
ارتفعت معدلات الانتحار في الولايات المتحدة بشكل درامي على مدار العقدين الماضيين. وتجنبت بعناد جهود المنع وتضخمت لتصبح أزمة صحية عامة على المستوى الأمة برمتها. كان برايدن واحداً من 45000 أمريكي قتلوا أنفسهم في عام 2016. ويبلغ ذلك العدد وفق أكثر التقديرات تحفظاً ضعف عدد جرائم القتل في ذلك العام. ووفق البيانات المنشورة في الأسبوع الماضي من قبل مركز مكافحة الأمراض فقد ارتفع معدل الانتحار القومي بنسبة 35% ما بين عامي 1999 و2018 مسجلاً ارتفاعاً في كافة الولايات. وفي مونتانا حيث عاش برايدن ارتفع معدل الانتحار بنسبة 38% خلال عقدين من الزمن وقتل الناس أنفسهم بمعدل تجاوز أية ولاية في أمريكا. حدثت أكثر الزيادات بين المراهقين وتجاوزت كافة النسب في الأعمار الأخرى في أمريكا وارتفع معدل الانتحار بين المراهقين والشباب بنسبة 47% خلال عقدين. ويشير المركز إلى تنوع كبير في القوى الرائدة الكامنة خلف الانتحار: العزلة الاجتماعية والجغرافية والمتاعب المالية وإدمان المخدرات والكحول ومشاكل الصحة العقلية. ولكنها تلقي بالضوء على عامل مشترك في معظم حالات الانتحار الأمريكية: المسدس.
يستخدم أكثر من نصف الأفراد المنتحرين في الولايات المتحدة المسدس لإنهاء حياتهم. ويعتبر الانتحار وباء أمريكا الصامت ومشكلتها مع الأسلحة النارية حيث يؤدي إلى 60% من وفيات الأسلحة وبينما يهيمن على الحوار الوطني حول ضبط الأسلحة معضلة القتل الجماعي التي لا تشكل سوى 1% من المجموع. وفي عام 2018 توفي في المعدل 67 شخصاً نتيجة الانتحار بسلاح ناري كل يوم وهو رقم ارتفع كل عام منذ سنة 2006. وتنبع المشكلة مع المسدس لكونه الوسيلة الأكثر قتلاً من بين الوسائل الأخرى. هناك ثلاثة احصائيات ترسم مجتمعة صورة صارخة لدور الأسلحة النارية في حالات الانتحار الأمريكية: يقتل 85% من الأفراد المستخدمين للمسدس. وينجو 95% من الأفراد الذين يستخدمون وسائل أخرى. ولا يعاود أكثر من 90% من الناجين المحاولة مرة أخرى.
يقول الدكتور دافيد هيمنواي مدير مركز جامعة هارفارد لضبط الإصابات والذي يعتبر ألمع الباحثين على مستوى البلاد بالأسلحة النارية “يعتقد الكثير من الناس أن المرء المصمم على الانتحار سيفعل ذلك بغض النظر عن الوسيلة التي يستخدمها ولكن المسدس الموجود في المنزل يرفع فرصة الانتحار بنسبة ثلاثة أضعاف في أغلب الأحيان”.
وإذا رغبت بمعرفة ما هو الشيء الوحيد الذي نعلمه عن بحوث الانتحار في الولايات المتحدة فذلك هو الجواب”.
ركزت جهود منع الانتحار من الناحية التاريخية على ما يسميه هيمنواي”المحفزات الاجتماعية والمالية والصحة العقلية. ويرغب مع زملائه الباحثين في المركز بمدينة بوسطن بتغيير بعض ذلك التركيز إلى نموذج أكثر قابلية للتعديل لتلك الظاهرة: الوسائل التي يستخدمها الأفراد “الكيفية”.
تقول الدكتورة كاثرين باربر وهي زميلة لهيمنواي والباحثة المخضرمة في المركز” من الطبيعي التركيز على الأسباب المؤدية للانتحار وكيفية وصول الفرد إلى تلك النقطة. ولكن عند نقطة ما يجب أن تتوقف وتفكر بالمنهج الأكثر مفعولية لإنقاذ الأرواح. أي “كيف”. تعتبر المسدسات الوسيلة الأكثر شيوعاً للانتحار في أمريكا إذا استثنيا الوقت. فهي سريعة وقاتلو وفعالة ولا تترك المزيد من الفسحة لتغيير النية أو لتدخل قد يسهم بإنقاذ الحياة.
تظهر دراسة تلو أخرى أن الانتحار هو فعل درامي انفعالي.
وتبين في دراسة أجريت عام 2009 أن 48% من الأفراد الذين قاموا بمحاولة شبه قاتلة لقتل أنفسهم قالوا إنهم فكروا بها قبل عشر دقائق فحسب. وأظهرت دراسة أخرى من عام 2001 أن نفس النسبة تداولت لمدة تقل عن 20 دقيقة. يقول الباحثون إن وضع فترة أقصر بين من الزمن أو عائقاً صغيراً بين الأفراد والوسائل التي يستخدمونها لقتل أنفسهم قد يمنع الموت.
يقول باربر “ليس من السهل أن يقوم المرء بقتل نفسه لأن الجسد يعارض ذلك ويرفض الدماغ ذلك. وتمنح معظم محاولات الانتحار تلك الاحتمالية لأنها تتطلب الوقت. وأحياناً يكفي القليل من الوقت.”
وإذا سألت ستيف والد برايدن لأجابك أن ولده احتاج لدقيقة فقط.
ويضيف”هذا ما أقوله على الدوام. “احتاج لدقيقة فقط”وكلما تحدثت عن تلك القضية أكثر كلما اكتشفت أن الأفراد الذين اعتزموا القيام بها ولم يفعلوا لأنهم حصلوا على تلك الدقيقة.”
لايزال ستيف شافير يعيش في هيلينا حيث تولى دوراً نشطاً في رفع الادراك حول الانتحار والصحة العقلية. يزين أحد جدران شقته بالذكريات المؤطرة لولده-كالصور ورسومات الطفولة وقميص لكرة السلة ونقش اسم برايدن على سترة كان يرتديها على دراجته النارية فوق موضع القلب.
كان ستيف ليلة موت ولده في ساكرمنتو وقد خلد إلى النوم باكراً في غرفة الفندق بعد يوم عمل مرهق. وضع هاتفه على الوضعية الصامتة ولكنه كان مبرمجاً لتشغيل الجرس في حال ورود اتصالات متكررة من نفس الرقم مما ايقظه من النوم. وسمع صوت أحد زملاء دراسته من هيلينا الذي تحول لاحقاً إلى شرطي ليخبره أن ولده قد فارق الحياة.
لا يزال ستيف يتأمل الرسالة الأخيرة التي أرسلها ولده إلى كيسي في تلك الليلة.
“يا صاح. اتصل بي.”
كان برايدن يبحث عن تلك الدقيقة. يقول ستيف.
“هناك الكثير من الطرق التي يستخدمها المرء للانتحار ولكن المسدس أسرعها وأسهلها. لا أقول تخلصوا من المسدسات ولا أقول تخلوا عن الحقوق ولكننا يجب ان نمتلك ببساطة قوانين أفضل.”.
يخبرنا التاريخ أن الحد من الوصول إلى وسائل معينة للانتحار قد يحدث تأثيراً درامياً على معدلات الانتحار.
نهاية الجزء الأول.